فصل: فصل (في نَقْلِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَنَقْلِ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسألة [في أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِلزَّكَاةِ يَكُونُ يَوْمَ الْقَسْمِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَهْلُ السُّهْمَانِ سِوَى الْعَامِلِينَ حَقَّهُمْ يَوْمَ يَكُونُ الْقَسْمُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِلزَّكَاةِ يَكُونُ يَوْمَ الْقَسْمِ وَنَصَّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ فِي قَرْيَةٍ فَمَاتَ أَحَدُ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَنَّ نَصِيبَهُ لِوَارِثِهِ فَجَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْوُجُوبِ إِذَا تَعَيَّنَ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِيهَا، مِثْلَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمْ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ ثَلَاثَةٌ فَمَا دُونَ فَيَكُونُوا فِي اسْتِحْقَاقِهَا مُعَيَّنِينَ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُهُمْ لَهَا مُعْتَبَرًا بِيَوْمِ الْوُجُوبِ لَا بَعْدَ الْقَسْمِ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ كَانَ حَقُّهُ لِوَارِثِهِ وَلَوْ غَابَ أَوْ أَيْسَرَ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا، وَلَوْ حَضَرَ الْقَرْيَةَ بَعْدَ الْوُجُوبِ غَرِيبٌ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْقَسْمِ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِيهَا، مِثْلَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ فِيهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَدَدٌ كَبِيرٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةً وَيَمْنَعَ الْبَاقِينَ، فَلَا يَكُونُوا فِيهَا مُعَيَّنِينَ، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ يَوْمَ الْقَسْمِ لَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَسْمِ لَمْ يُعْطَ وَارِثُهُ، وَلَوْ غَابَ أَوْ أَيْسَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، وَلَوْ حَضَرَ غَرِيبٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ الْقَسْمِ أُعْطِيَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.باب مِيسَمِ الصَّدَقَاتِ:

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: يَنْبَغِي لِوَالِي الصَّدَقَاتِ أَنْ يَسِمَ كُلَّ مَا أَخَذَ مِنْهَا مِنْ بَقَرٍ أَوْ إِبِلٍ فِي أَفْخَاذِهَا وَيَسِمَ الْغَنَمَ فِي أُصُولِ آذَانِهَا، وَمِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفُ مِنْ مِيسَمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَيَجْعَلَ الْمِيسَمَ مَكْتُوبًا للَّهِ؛ لِأَنَّ مَالِكَهَا أَدَّاهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَتَبَ لِلَّهِ، وَمِيسَمُ الْجِزْيَةِ مُخَالِفٌ لِمِيسَمِ الصَّدَقَةِ: لِأَنَّهَا أُدِّيَتْ صِغَارًا لَا أَجْرَ لِصَاحِبِهَا فِيهَا، وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنْ عُمَّالِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِمُونَ وَقَالَ أَسْلَمُ لِعُمَرَ إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه نَدْفَعُهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يُقَطِّرُونَهَا بِالْإِبِلِ.
قال قُلْتُ كَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَرْضِ؟ قَالَ عُمَرُ أَمِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ؟ قُلْتُ لَا، بَلْ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ. فَقَالَ عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا، فَقُلْتُ إِنَّ عَلَيْهَا مِيسَمَ الْجِزْيَةِ، قَالَ فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَنُحِرَتْ، قَالَ فَكَانَتْ عِنْدَهُ صِحَافٌ تِسْعٌ، فَلَا تَكُونُ فَاكِهَةً وَلَا طَرِيفَةً إِلَّا وَجَعَلَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ، فِيَبعَثُ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ الَّذِي يَبْعَثُ بِهِ إِلَى حَفْصَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- مِنْ آخِرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ كَانَ فِي حَظِّهَا، قَالَ فَجَعَلَ فِي تِلْكَ الصِّحَافِ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِمَا بَقِيَ مِنَ اللَّحْمِ فَصُنِعَ فَدَعَا عَلَيْهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ. (قَالَ) وَلَا أَعْلَمُ فِي الْمِيسَمِ عِلَّةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّدَقَةِ مَعْلُومًا، فَلَا يَشْتَرِيهِ الَّذِي أَعْطَاهُ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ رضي الله عنه فِي فَرَسٍ حُمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَرَآهُ يُبَاعُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَهُ، وَكَمَا تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ نُزُولَ مَنَازِلِهِمْ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهَا لِلَّهِ تَعَالَى.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمِيسَمُ عِنْدَنَا مُسْتَحَبٌّ فِي مَوَاشِي الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَرَاهِيَتُهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى الْعَبَّاسَ وَهُوَ يَسِمُ إِبِلَهُ فِي وُجُوهِهَا فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، لَا تَسِمْ فِي الْوَجْهِ، فَقَالَ: الْعَبَّاسُ، وَاللَّهِ لَا وَسَمْتُهَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا فِي الْجَاعِرَتَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُسْعَدِ بْنِ نُقَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نُقَادَةَ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ مُغَفَّلٌ فَأَيْنَ أَسِمُ؟ قَالَ: فِي مَوْضِعِ الْجِرْمِ مِنَ السَّالِفَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اطْلُبْ لِي طِلْبَةً، قَالَ: ابْغِنِي حَلْبَانَةً رَكْبَانَةً غَيْرَ أَلَّا تُولَدَ ذَاتَ وَلَدٍ عَنْ وَلَدِهَا. الْمُغَفَّلُ: صَاحِبُ الْإِبِلِ الْغُفْلِ الَّتِي لَا سِمَةَ عَلَيْهَا، وَالْجِرْمُ: الزِّمَامُ. وَالسَّالِفَةُ: مُقَدَّمُ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، وَالْحَلْبَانَةُ: ذَاتُ لَبَنٍ يُحْلَبُ، وَالرَّكْبَانَةُ: ذَاتُ ظَهْرٍ يُرْكَبُ. وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ، قُلْتُ: فَكَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ عُمَرُ: مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ أَمْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ؟ فَقُلْتُ: الْإِبِلُ هِيَ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا، فَقُلْتُ: إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَنُحِرَتْ... الْحَدِيثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِيسَمَ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ بِهِ تَمْتَازُ الْأَمْوَالُ مَعَ تَمَيُّزِ مُسْتَحِقِّهَا، وَلِيَكُونَ إِذَا ضَلَّتْ سَبَبًا لِرَدِّهَا، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَسْمِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمِيسَمُ مِنْهَا. وَالثَّانِي: فَالَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَكَانُهُ فَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ صَلُبَ مِنَ الْبَدَنِ وَقَلَّ شَعْرُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَعَلَى أَفْخَاذِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْغَنَمِ فَعَلَى أُصُولِ آذَانِهَا وَيَكُونُ مِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفَ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَصْبِرُ مِنَ الْأَلَمِ عَلَى مَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا. فَأَمَّا مَا يُكْتَبُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ، إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهَا صَدَقَةً، أَوْ طُهْرَةً، أَوْ لِلَّهِ، وَهَذَا أَحَبُّهَا إِلَى الشَّافِعِيِّ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْجِزْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ جِزْيَةً، أَوْ يَكْتُبَ صِغَارًا، وَهَذَا اجْتِهَادُ الشَّافِعِيِّ اتِّبَاعًا لِقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 29]، فَأَمَّا تَمْيِيزُهَا بِجَدْعِ الْأُنُوفِ وَقَطْعِ الْآذَانِ فَمَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب الِاخْتِلَافِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا مُؤَلَّفَةَ. فَيَجْعَلُ سَهْمَهُمْ وَسَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ مَشْرُوحَةً بِدَلَائِلِهَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ مَقْصُورًا عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهَا فَاقْتَصَرْنَا مِنْهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى تَفْصِيلِ مَا أَوْرَدَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ قَدَّمَهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ: إِحْدَاهُمَا: فِي سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ. وَالثَّانِيَةُ: فِي سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَسْقَطَهُ وَزَعَمَ أَنْ لَا مُؤَلَّفَةَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ بِقُوَّةِ الدِّينِ وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ عَلَى الشَّرْحِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمْ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَلِأَنَّ مَا بَقِيَ لِلْإِسْلَامِ أَعْدَاءٌ يَلْزَمُ جِهَادُهُمْ بَقِيَ مُؤَلَّفَةٌ يُتَأَلَّفُ قُلُوبُهُمْ كَالْعَصْرِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ زَعَمَ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ مَعَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثَغْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ كُرَاعًا وَلَا سِلَاحًا لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُمْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفًا إِلَى مَالِكِينَ، فَإِنْ تَعَيَّنَ الْغُزَاةُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ وَاحْتَاجُوا إِلَى كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ، فَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ بِسَهْمِهِمْ كُرَاعًا وَسِلَاحًا وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ عَيْنَ مَالِهِ لِيَتَوَلَّوْا بِأَنْفُسِهِمْ شِرَاءَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مَنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ لِئَلَّا يَصِيرَ رَبُّ الْمَالِ دَافِعَهَا قِيمَةَ زَكَاةٍ؛ إِذْ يَمْنَعُ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ وَالِيًا فَفِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ لَهُمْ وَجْهَانِ مَضَيَا.

.فصل [في تحديد ابن السبيل المستحق للصدقة]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمُ ابْنُ السَّبِيلِ مَنْ مَرَّ يُقَاسِمُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ الصَّدقَاتُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ ثَالِثَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ؛ حَيْثُ يَقُولُ إِنَّ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ سَهْمَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمُجْتَازُ بِبَلَدِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ مِنْهُ لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ حَقِيقَةُ الِاسْمِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُجْتَازِ وَالْمُنْشِئِ اعْتِبَارًا بِالْعُمُومِ، وَلِأَنَّ الْمُنْشِئَ جَارٌ لِلْمَالِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْمُجْتَازِ الْغَرِيبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُعَانَ الْمُجْتَازُ عَلَى بَعْضِ سَفَرِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُعَانَ الْمُنْشِئُ عَلَى جَمِيعِ سَفَرِهِ.

.فصل [في أَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَلْزَمُ صَرْفُهُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ أَيْضًا حَيْثُ كَانَتِ الْحَاجَةُ أَكْثَرَ، فَهِيَ وَاسِعَةٌ كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ فَوْضَى بَيْنَهُمْ يُقَسِّمُونَهُ عَلَى الْعَدَدِ وَالْحَاجَةِ: لِأَنَّ لِكُلِّ أَهْلِ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمًا.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ؛ حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَلْزَمُ صَرْفُهُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَلَكِنْ يَصْرِفُ فِي أَمَسِّهِمْ حَاجَةً وَيَعْدِلُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَصْرِفُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمُسَمَّاةِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ حَقًّا، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ بَعْضِهِمْ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْوَصَايَا إِذَا سَمَّى فِيهَا أَصْنَافًا لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا كَانَتْ عَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ مُعْتَبَرَةً لَبَطَلَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قال الشَّافِعِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِذَا تَمَاسَكَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ وَأَجْدَبَ آخَرُونَ نُقِلَتْ إِلَى الْمُجدِبِينَ إِذَا كَانُوا يُخَافُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ لِمَعْنَى صَلَاحِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَامِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ نَقْلَ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْإِمَامِ إِلَيْهِ فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَقَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ صَدَقَاتِ قَومِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِالْمَدِينَةِ، قِيلَ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَا فَضَلَ مِنِ جِيرَانِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَقْرَبَ النَّاسِ بِهِمْ نَسَبًا وَدَارًا فَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَوْلَهُمُ ارْتَدُّوا: لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الرِّدَّةِ فَلَمْ يَسْتَحِقُّوهَا مَعَ الرِّدَّةِ فَنُقِلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُمِلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ إِظْهَارًا لِطَاعَتِهِ: لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ كَانُوا مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمَّا أَظْهَرُوا الطَّاعَةَ بِنَقْلِ الزَّكَاةِ رَدَّهَا عَلَيْهِمْ لِيَتَوَلَّوْا قَسْمَهَا فِي جِيرَانِهِمْ.

.فصل [في نَقْلِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَنَقْلِ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَحْسَبُهُ يَقُولُ وَتُنْقَلُ سُهْمَانُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَ الْفَيْءُ وَيُنْقَلُ الْفَيْءُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَتِ الصَّدَقَاتُ عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ صَلَاحِ عِبَادِ اللَّهِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَإِنَّمَا قُلْتُ بِخِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَزَّ-
جَعَلَ الْمَالَ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي هِيَ طُهْرَةٌ فَسَمَّاهَا اللَّهُ لِثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ وَوَكَّدَهَا، وَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ تُؤْخَذَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ لَا فُقَرَاءِ غَيْرِهِمْ، وَلِغَيْرِهِمْ فُقَرَاءُ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا غَيْرُ مَا قُلْتُ مِنْ أَلَّا تُنْقَلَ عَنْ قَوْمٍ وَفِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُخْرَقُ سَهْمُ ذِي سَهْمٍ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ يَستَحِقُّهُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهُ تَعَالَى أَصْنَافًا فَيَكُونُوا مَوْجُودِينَ مَعًا فَيُعْطِي أَحَدًا سَهْمَهُ وَسَهْمَ غَيْرِهِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا عِنْدِي جَازَ أَنْ يَجْعَلَ فِي سَهْمٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ سِهَامِ سَبْعَةٍ مَا فُرِضَ لَهُمْ، وَيُعْطَى وَاحِدٌ مَا لَمْ يُفْرَضْ لَهُ، وَالَّذِي يُخَالِفُنَا يَقُولُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُقَرَاءِ بَنِي فُلَانٍ وَغَارِمِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلٍ آخَرَ وَبَنِي سَبِيلٍ وبَنِي فُلَانٍ رَجُلٍ آخَرَ. إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَأَنْ لَيْسَ لِوَصِيٍّ وَلَا وَالٍ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ صِنْفًا دُونَ صِنْفٍ وَإِنْ كَانَ أَحْوَجَ وَأَفْقَرَ مِنْ صِنْفٍ: لِأَنَّ كُلًّا ذُو حَقٍّ بِمَا سُمِّيَ لَهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا أُعْطِيَ الْآدَمِيُّونَ أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَّا عَلَى مَا أُعْطُوا، فَعَطَاءُ اللَّهِ أَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَّا عَلَى مَا أَعْطَى. (قَالَ) وَإِذَا قَسَمَ اللَّهُ الْفَيْءَ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِمَنْ أَوْجَفَ عَلَى الْغَنِيمَةِ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلَمْ نَعْلَمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَّلَ ذَا غَنَاءٍ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَلَمْ يُفَضِّلِ الْمُسْلِمُونَ الْفَارِسَ أَعْظَمَ النَّاسِ غَنَاءً عَلَى جَبَانٍ فِي الْقَسْمِ، وَكَيْفَ جَازَ لِمُخَالِفِنَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ وَقَدْ قَسَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمِينِ الْقَسْمِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ وَيَنْقُلُهَا عَنْ أَهْلِهَا الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا إِلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنْ كَانُوا أَحْوَجَ مِنْهُمْ، أَوْ يُشْرِكَهُمْ مَعَهُمْ، أَوْ يَنْقُلَهَا عَنْ صِنْفٍ مِنْهُمْ إِلَى صِنْفٍ غَيْرِهِ، (أَرَأَيْتَ) لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِقَوْمٍ أَهْلِ غَزْوٍ كَثِيرٍ أَوجِفُوا عَلَى عَدُوٍّ أَنْتُمْ أَغْنِيَاءُ، فَآخُذُ مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ فَأُقَسِّمُهُ عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ الْمُحْتَاجِينَ إِذَا كَانَ عَامًا سَنَةً لِأَنَّهُمْ مِنْ عِيَالِ اللَّهِ تَعَالَى، هَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مَنْ قَسَمَ اللَّهُ لَهُ بِحَقٍّ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُ أَحْوَجَ مِنْهُ؟ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَهَكَذَا لِأَهْلِ الْمَوَارِيثِ لَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ سَهْمَ غَيْرِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ سَهْمِهِ لِفَقْرٍ وَلَا لِغِنًى، وَقَضَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ إِلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ. فَفِي هَذَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ، لَمْ يَقُلْ لِقَرَابَتِهِ دُونَ أَهْلِ الْمِخْلَافِ، وَالْآخَرُ أنَهُ رَأَى أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا ثَبَتَتْ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَمْ تُحَوَّلْ عَنْهُمْ صَدَقَتُهُ وَعُشْرُهُ بِتَحَوُّلِهِ عَنْهُمْ وَكَانَتْ كَمَا يَثْبُتُ بَدْءًا، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه بِصَدَقَاتٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، فَهُمَا وَإِنْ جَاءَا بِهَا فَقَدْ تَكُونُ فَضْلًا عَنْ أَهْلِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِمْ نَسَبًا وَدَارًا مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى سَعَةٍ مِنْ مُضَرَ وَطَيِّءٍ مِنَ الْيَمَنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَوْلَهُمُ ارْتَدُّوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا حَقٌّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ثُمَّ يَرُدَّهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ نَصِيرُ إِلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يُؤْتَى بِنَعَمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَبِالْمَدِينَةِ صَدَقَاتُ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالنَّاسِ وَالْمَاشِيَةِ، وَلِلْمَدِينَةِ سَاكِنٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَحُلَفَاءُ لَهُمْ وَأَشْجَعُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ بِهَا وَبِأَطْرَافِهَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَعِيَالُ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَعِيَالُ عَشَائِرِهِمْ وَجِيرَانِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ عِيَالُ سَاكِنِي أَطْرَافِهَا بِهَا وَعِيَالُ جِيرَانِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ فَيُؤْتَوْنَ بِهَا وَتَكُونُ مَجْمَعًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ كَمَا تَكُونُ الْمِيَاهُ وَالْقُرَى مَجْمَعًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَعَلَّهُمُ اسْتَغْنَوْا فَنَقَلَهَا إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِمْ وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ، (فَإِنْ قِيلَ) فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كَثِيرَةٍ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَإِنَّمَا هِيَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ: لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ مِنَ الْإِبِلِ، وَأَكْثَرُ فَرَائِضِ الْإِبِلِ لَا تَحْمِلُ أَحَدًا. وَقَدْ كَانَ يَبْعَثُ إِلَى عُمَرَ بِنَعَمِ الْجِزْيَةِ فَيَبْعَثُ فَيَبْتَاعُ بِهَا إِبِلًا جَلَّةً فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا (وَقَالَ) بَعْضُ النَّاسِ مِثْلَ قَوْلِنَا فِي أَنَّ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الصَّدَقَاتِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَادِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَهُمْ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا نَقْلَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَنَقْلَ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ اعْتِبَارًا بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ النَّقْلِ هَلْ يُقْضَى مَنْ نُقِلَ عَنْهُ سَهْمُهُ إِذَا اتَّسَعَ مَالُ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَإِنْ جَهِدُوا، وَلَا نَقْلُ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ جَهِدُوا. وَيُقَسَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَالَيْنِ فِي أَهْلِهِ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ مَالٍ مَالِكًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ النَّصِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْغَنِيمَةِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا انْقِيَادًا لِحُكْمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ ضَرُورَةً وَأَمَسَّ حَاجَةً لَمْ يَجُزْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْوَصَايَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهَا عَمَّنْ سُمِّيَتْ لَهُ فَعَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْمَوَارِيثِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ هُوَ آثَرُ وَأَحْوَجُ، فَكَذَلِكَ مَالُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ مِيسَمًا وَإِبِلَ الْجِزْيَةِ مِيسَمًا؛ فَلَوْلَا تَمَيُّزُ الْمُسْتَحَقِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمِثَالَيْنِ لَمَا مَيَّزَ بِالْمِيسَمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ.
قال الشَّافِعِيُّ جَوَابًا عَنْ هَذَا: إِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلِ الْجِزْيَةِ لَا عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ: لِأَنَّ أَكْثَرَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُبْعَثُ إِلَيْهِ بِنَعَمِ الْجِزْيَةِ فَيَبْعَثُ بِهَا فَيَبْتَاعُ بِهَا إِبِلًا يَحْمِلُ عَلَيْهَا.